سورة الأنفال - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{وَلاَ تَكُونُواْ} تقريرٌ للنهي السابق وتحذيرٌ عن مخالفته بالتنبيه على أنه مؤديةٌ إلى انتظامهم في سلك الكفرةِ بكون سماعِهم كَلا سماعٍ أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي {كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا} بمجرد الادعاءِ من غير فهمٍ وإذعانٍ كالكفرة والمنافقين الذي يّدعون السماعَ {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} حالٌ من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحالُ أنهم لا يسمعون حيث لا يصدّقون ما سمعوه ولا يفهمونه حقَّ فهمِه فكأنهم لا يسمعونه رأساً.
{إِنَّ شَرَّ الدواب} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان كمالِ سوءِ حالِ المشبه بهم مبالغةً في التحذير وتقريراً النهي إثرَ تقريرٍ، أي إن شرَّ ما يدب على الأرض أو شرَّ البهائم {عَندَ الله} أي في حكمه وقضائه {الصم} الذين لا يسمعون الحق {البكم} الذين لا ينطِقون به، وُصفوا بالصمم والبَكَم لأن ما خُلق له الأذنُ واللسانُ سماعُ الحق والنطقِ به، وحيث لم يوجد فيهم شيءٌ من ذلك صاروا كأنهم فاقدون للجارحتين رأساً، وتقديم الصمِّ على البكم لِما أن صُمَّهم متقدمٌ على بُكمهم، فإن السكوتَ عن النطق لِما لحِقَ من فروع عدمِ سماعِهم له كما أن النطقَ به من فروعِ سماعِه ثم وُصفوا بعدم التعقل فقيل: {الذين لاَ يَعْقِلُونَ} تحقيقاً لكمال سوءِ حالِهم فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان له عقلٌ ربما يفهم بعضَ الأمور ويُفهمُه غيرُه بالإشارة ويهتدي بذلك إلى بعض مطالبِه، وأما إذا كان فاقداً للعقل أيضاً فهو الغايةُ في الشرّية وسوءِ الحال، وبذلك يظهرُ كونُهم شراً من البهائم حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وبه يفضّلون على كثير من خلق الله عز وجل فصاروا أخسّ من كل خسيس {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا} شيئاً من جنس الخيرِ الذي من جملته صرفُ قواهم إلى تحرّي الحقِّ واتباعِ الهدى {لاسْمَعَهُمْ} سماعَ تفهمٍ وتدبر ولوقفوا على حقّية الرسولِ عليه الصلاة والسلام وأطاعوه وآمنوا به ولكن لم يعلم فيهم شيئاً من ذلك لخلوّهم عنه بالمرة فلم يُسمِعْهم كذلك لخلوه عن الفائدة وخروجِه عن الحكمة وإليه أشير بقوله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ} أي لو أسمعهم سماعَ تفهّمٍ وهم على هذه الحالة العارية من الخير بالكلية لتولّوا عما سمِعوه من الحق ولم ينتفعوا به قطُّ أو ارتدوا بعد ما صدقوه وصاروا كأن لم يسمعوه أصلاً وقوله تعالى: {وَهُم مُّعْرِضُونَ} إما حالٌ من ضمير تولوا أي لتولوا على أدبارهم والحالُ أنهم معرضون عما سمعوه بقلوبهم، وإما اعتراضٌ تذييلىٌّ أي وهم قومٌ عادتُهم الإعراضُ وقيل: كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحّيِ قُصَيّاً فإنه كان شيخَاً مباركاً حتى يشهدَ لك ونؤمنَ بك فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصيَ إلخ وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصي، لم يُسلم منهم إلا مصعبُ بنُ عميرٍ وسويدُ بن حرْملة كانوا يقولون: نحن صمٌّ بكمٌ عميٌ عما جاء به محمدٌ لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقُتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحابَ اللواءِ وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن رضي الله عنه أنهم أهلُ الكتاب.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تكريرُ النداء مع وصفهم بنعت الإيمانِ لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يردُ بعدَه من الأوامر وتنبيهِهم على أن فيهم ما يوجب ذلك {استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} بحسن الطاعة {إِذَا دَعَاكُمْ} أي الرسولُ إذ هو المباشرُ لدعوة الله تعالى {لِمَا يُحْيِيكُمْ} من العلوم الدينيةِ التي هي مناطُ الحياة الأبدية كما أن الجهَل مدارُ الموتِ الحقيقيِّ أو هي ماءُ حياةِ القلبِ كما أن الجهلَ موجبٌ موتَه، وقيل: لمجاهدة الكفارِ لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} روي أنه عليه الصلاة والسلام «مر على أُبيَّ بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجّل في صلاته ثم جاء فقال عليه الصلاة والسلام: ما منعك من إجابتي؟ قال: كنت في الصلاة قال: ألم تخبَرْ فيما أوحِيَ إلي {استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} الخ». واختلف فيه فقيل: هذا من خصائص دعائه عليه الصلاة والسلام وقيل: لأن إجابته عليه الصلاة والسلام لا تقطع الصلاةَ وقيل: كان ذلك الدعاءُ لأمر مهمَ لا يحتمل التأخيرَ وللمصلي أن يقطع الصلاةَ لمثله {واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} تمثيلٌ لغاية قربِه تعالى من العبد كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} وتنبيهٌ على أنه تعالى مطلعٌ من منكونات القلوب على ما عسى يغفُل عنه صاحبُها أو حثٌّ على المبادرة إلى إخلاص القلوبِ وتصفيتِها قبل إدراك المنيةِ فإنها حائلةٌ بين المرء وقلبِه أو تصويرٌ وتخييلٌ لتملّكه على العبد قلبَه بحيث يفسخ عزائمهُ ويغيّر نياتِه ومقاصدَه ويحول بينه وبين الكفر إن إراد سعادتَه ويبدله بالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وما أشبه ذلك من الأمور المعترضةِ المفوتةِ للفرصة، وقرئ {بين المرِّ} بتشديد الراء على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل مجرى الوقف {وَأَنَّهُ} أي الله عز وجل أو الشأن {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتبِ أعمالِكم فسارعوا إلى طاعته تعالى وطاعةِ رسولِه وبالغوا في الاستجابة لهما.
{واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} أي لا تختصّ إصابتُها بمن يباشر الظلمَ منكم بل يعُمه وغيرَه كإقرار المُنكَر بين أظهُرِهم والمداهنةِ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراقِ الكلمةِ وظهورِ البدع والتكاسلِ في الجهاد، على أن قوله: لا تصيبن إلخ إما جوابُ الأمر على معنى أن إصابتكم لا تصيبن إلخ وفيه أن جوابَ الشرط مترددٌ فلا يليق به النونُ المؤكدةُ لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى: {ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} وإما صفةٌ لفتنة ولا للنفي وفيه شذوذٌ لأن النون لا تدخُل المنفيَّ في غير القسمِ، أو للنهي على إرادة القولِ كقول من قال:
فحتى إذا جَنّ الظلامُ واختلط *** جاؤوا بمذْقٍ هل رأيتَ الذئب قطّ
وإما جوابُ قسم محذوفٍ كقراءة من قرأ: لتصيبن وإن اختلف المعنى فيهما، وقد جُوِّز أن يكون نهياً عن التعرض للظلم بعد الأمرِ باتقاء الذنبِ فأن وبالَه يصيب الظالمَ خاصةً ويعود عليه ومِنْ في منكم على الوجوه الأُوَلِ للتبعيض وعلى الأخرين للتبيين، وفائدتُه التنبيهُ على أن الظلمَ منكم أقبحُ منه من غيركم {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشِرْ سببَه.


{واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} أي وقتَ كونِكم قليلاً في العدد، وإيثارُ الجملةِ الاسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها من الضعف والخوف، وقوله تعالى: {مُّسْتَضْعَفُونَ} خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لقليل وقوله تعالى: {فِى الارض} أي في أرض مكةَ تحت أيدى قريشٍ والخطابُ للمهاجرين، أو تحت أيدي فارسَ والرومَ، والخطاب للعَرَب كافةً فإنهم كانوا أذلأَ تحت أيدي الطائفتين، وقوله تعالى: {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} خبرٌ ثالثٌ أو صفةٌ ثانية لقليلٌ وُصِفَ بالجملة بعد ما وصف بالمُفرد، أو حالٌ من المستكنِّ في مستضعفون والمرادُ بالناس على الأول وهو الأظهرُ إما كفارُ قريشٍ وإما كفارُ العرب لقربهم منهم وشدةِ عداوتهم لهم، وعلى الثاني فارس والروم أي واذكروا وقت قِلتِكم وذِلتكم وهَوانِكم على الناس وخوفِكم من اختطافهم {فَآوَاكُمْ} إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} على الكفار أو بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} من الغنائم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعمَ الجليلة.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} أصلُ الخَوْنِ النقصُ كما أن أصلَ الوفاءِ التمام، واستعمالهُ في ضد الأمانة لتضمنه إياه أي لا تخونوهما بتعطيل الفرائضِ والسنن أو بأن تُضمِروا خلافَ ما تظهرون، أو في الغلول في الغنائم، روي «أنه عليه الصلاة والسلام حاصَر بني قُريظةَ إحدى وعشرين ليلةً فسألوا الصُّلْحَ كما صالح بني النضيرِ على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرِعاتٍ وأريحاءَ من الشام، فأبى إلا أن ينزِلوا على حكم سُعد بن معاذ رضي الله عنه فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لُبابةَ وكان مناصِحاً لهم لِما أن ماله وعيالَه كانا في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا: ما ترى هل ننزل على حُكم سعدٍ فأشار إلى حلقه إنه الذبحُ قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عملتُ أني خُنتُ الله ورسولَه فنزلت فشد نفسَه على سارية من سواري المسجدِ وقال: والله لا أذوقُ طعاماً ولا شراباً حتى أموتَ أو يتوبَ الله عليّ فمكث سبعةَ أيامٍ حتى خرَّ مغشياً عليه ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيبَ عليك فحُلَّ نفسَك، قال: لا والله لا أحُلّها حتى يكونَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحُلّني فجاءه عليه الصلاة والسلام فحلّه فقال: إن من تمام توبتي أن أهجُرَ دارَ قومي التي أصبتُ فيها الذنبَ وأن أنخلِع من مالي فقال عليه الصلاة والسلام: يُجزِئُك الثلثُ أن تتصدقَ به» {وَتَخُونُواْ أماناتكم} فيما بينكم وهو مجزومٌ معطوفٌ على الأول أو منصوبٌ على الجواب بالواو {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم تخونون أو وأنتم علماءُ تميِّزون الحسنَ من القبيح.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8